الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البداية والنهاية **
استهلت وخليفة الوقت الحاكم بأمر الله أبو العباس أحمد بالعباسي، وسلطان الإسلام الملك الظاهر. وفي يوم الأحد الرابع عشر من المحرم ركب السلطان إلى البحر لالتقاء الشواني التي عملت عوضاً عما غرق بجزيرة قبرص، وهي أربعون شينياً، فركب في شيني منها ومعه الأمير بدر الدين، فمالت بهم فسقط الخزندار في البحر فغاص في الماء فألقى إنسان نفسه وراءه فأخذ بشعره وأنقده من الغرق، فخلع السلطان على ذلك الرجل وأحسن إليه. وفي أواخر المحرم ركب السلطان في نفر يسير من الخاصكية، والأمراء من الديار المصرية حتى قدم الكرك، واستحصب نائبها معه إلى دمشق، فدخلها في ثاني عشر صفر، ومعه الأمير عز الدين أيدمر نائب الكرك، فولاه نيابة دمشق وعزل عنها جمال الدين آقوش النجيبي في رابع عشر صفر، ثم خرج إلى حماة وعاد بعد عشرة أيام. وفي ربيع الأول وصلت الجفال من حلب وحماة وحمص إلى دمشق بسبب الخوف من التتار، وجفل خلق كثير من أهل دمشق. وفي ربيع الآخر وصلت العساكر المصرية إلى حضرة السلطان إلى دمشق فسار بهم منها في سابع الشهر، فاجتاز بحماة واستصحب ملكها المنصور، ثم سار إلى حلب فخيم بالميدان الأخضر بها، وكان سبب ذلك أن عساكر الروم جمعوا نحواً من عشرة آلاف فارس وبعثوا طائفة منهم فأغاروا على عين تاب. ووصلوا إلى نسطون ووقعوا على طائفة من التركمان بين حارم وإنطاكية فاستأصلوهم فلما سمع التتار بوصول السلطان ومعه العساكر المنصورة ارتدوا على أعقابهم راجعين، وكان بلغه أن الفرنج أغاروا على بلاد قاقون ونهبوا طائفة من التركمان، فقبض على الأمراء الذين هناك حيث لم يهتموا بحفظ البلاد وعادوا إلى الديار المصرية. وفي ثالث شعبان أمسك السلطان قاضي الحنابلة بمصر شمس الدين أحمد بن العماد المقدسي، وأخذ ما عنده من الودائع فأخذ زكاتها ورد بعضها إلى أربابها، واعتقله إلى شعبان من سنة ثنتين وسبعين، وكان الذي وشى به رجل من أهل حران يقال له شبيب، ثم تبين للسلطان نزاهة القاضي وبراءته فأعاده إلى منصبه في سنة ثنتين وسبعين. (ج/ص: 13/305) وجاء السلطان في شعبان إلى أراضي عكا فأغار عليها فسأله صاحبها المهادنة فأجابه إلى ذلك فهادنه عشرة سنين وعشرة أشهر وعشرة أيام وعشرة ساعات، وعاد إلى دمشق فقرئ بدار السعادة كتاب الصلح، واستمر الحال على ذلك ثم عاد السلطان إلى بلاد الإسماعيلية فأخذ عامتها. قال قطب الدين: وفي جمادى الآخرة ولدت زرافة بقلعة الجبل، وأرضعت من بقرة. قال: وهذا شيء لم يعهد مثله. سلار بن حسن بن عمر بن سعيد الأربلي الشافعي، أحد مشايخ المذهب، وقد اشتغل عليه الشيخ محيي الدين النووي، وقد اختصر البحر للروياني في مجلدات عديدة هي عندي بخط يده وكانت الفتيا تدور عليه بدمشق، توفي في عشر السبعين، ودفن بباب الصغير، وكان مفيداً بالبادرائية من أيام الواقف، لم يطلب زيادة على ذلك إلى أن توفي في هذه السنة. ابن سويد التكريتي التاجر الكبير بين التجار بن سويد ذو الأموال الكثيرة، وكان معظماً عند الدولة، ولا سيما عند الملك الظاهر، كان يجله ويكرمه لأنه كان قد أسدى إليه جميلاً في حال إمرته قبل أن يلي السلطنة، ودفن برباطه وتربته بالقرب من الرباط الناصري بقاسيون، وكانت كتب الخليفة ترد إليه في كل وقت، وكانت مكاتباته مقبولة عند جميع الملوك، حتى ملوك الفرنج في السواحل. وفي أيام التتار في أيام هولاكو، وكان كثير الصدقات والبر. واقف اللبودية التي عند حمام الفلك المبرر على الأطباء، ولديه فضيلة بمعرفة الطب، وقد ولى نظر الدواوين بدمشق، ودفن بتربته عند اللبودية.(ج/ص: 13/306) صاحب الزاوية بالقرب من بلد الخليل عليه السلام، كان مشهوراً بالصلاح والعبادة والإطعام لمن اجتاز به من المارة والزوار، وكان الملك المنصور قلاوون يثنى عليه ويقول: اجتمعت به وهو أمير وأنه كاشفة في أشياء وقعت جميعها، ومن جملتها أنه سيملك. نقل ذلك قطب الدين اليونيني، وذكر أن سبب بكائه الكثير أنه صحب رجلاً كانت له أحوال وكرامات، وأنه خرج معه من بغداد فانتهوا في ساعة واحدة إلى بلدة بينها وبين بغداد مسيرة سنة، وأن ذلك الرجل قال له إني سأموت في الوقت الفلاني، فأشهدني في ذلك الوقت في البلد الفلاني. قال: فلما كان ذلك الوقت حضرت عنده وهو في السياق، وقد استدار إلى جهة الشرق فحولته إلى القبلة فاستدار إلى الشرق فحولته أيضاً ففتح عينيه وقال: لا تتعب فإني لا أموت إلا على هذه الجهة، وجعل يتكلم بكلام الرهبان حتى مات فحملناه فجئنا به إلى دير هناك فوجدناهم في حزن عظيم. فقلنا لهم: ما شأنكم؟ فقالوا: كان عندنا شيخ كبير ابن مائة سنة، فلما كان اليوم مات على الإسلام، فقلنا لهم: خذوا هذا بدله وسلمونا صاحبنا، قال فوليناه فغسلناه وكفناه وصلينا عليه ودفناه مع المسلمين، وولوا هم ذلك الرجل فدفنوه في مقبرة النصارى، نسأل الله حسن الخاتمة. مات الشيخ علي في رجب من هذه السنة. في خامس المحرم وصل الظاهر دمشق من بلاد السواحل التي فتحها وقد مهدها، وركب في أواخر المحرم إلى القاهرة فأقام بها سنة ثم عاد فدخل دمشق في رابع صفر، وفي المحرم منها وصل صاحب النوبة إلى عيذاب فنهب تجارها وقتل خلقاً من أهلها.(ج/ص: 13/307) منهم الوالي والقاضي، فسار إليه الأمير علاء الدين أيد غدي الخزندار فقتل خلقاً من بلاده ونهب وحرق وهدم ودوخ البلاد، وأخذ بالثأر ولله الحمد والمنة. وفي ربيع الأول توفي الأمير سيف الدين محمد بن مظفر الدين عثمان بن ناصر الدين منكورس صاحب صهيون، ودفن في تربة والده في عشر السبعين، وكان له في ملك صهيون وبزريه إحدى عشرة سنة، وتسلمها بعده ولده سابق الدين، وأرسل إلى الملك الظاهر يستأذنه في الحضور فأذن له، فلما حضر أقطعه حيزاً وبعث إلى البلدين نواباً من جهته. وفي خامس جمادى الآخرة وصل السلطان بعسكره إلى الفرات لأنه بلغه أن طائفة من التتار هنالك فخاض إليهم الفرات بنفسه وجنده، وقتل من أولئك مقتلة كبيرة وخلقاً كثيراً، وكان أول من اقتحم الفرات يومئذ الأمير سيف الدين قلاوون، وبدر الدين بيسرى، وتبعهما السلطان، ثم فعل بالتتار ما فعل، ثم ساق إلى ناحية البيرة وقد كانت محاصرة بطائفة من التتار أخرى. فلما سمعوا بقدومه هربوا وتركوا أموالهم وأثقالهم، ودخل السلطان إلى البيرة في أبهة عظيمة وفرق في أهلها أموالاً كثيرة، ثم عاد إلى دمشق في ثالث جمادى الآخرة ومعه الأسرى. وخرج منها في سابعه إلى الديار المصرية، وخرج ولده الملك السعيد لتلقيه ودخلا إلى القاهرة، وكان يوماً مشهوداً. ومما قاله القاضي شهاب الدين محمود الكاتب، وأولاده يقال لهم بنو الشهاب محمود، في خوض السلطان الفرات بالجيش: سر حيث شئت لك المهيمن جار * واحكم فطوع مرادك الأقدار لم يبق للدين الذي أظهرته * يا ركنه عند الأعادي ثار لما تراقصت الرؤوس تحركت * من مطربات قسيك الأوتار خضت الفرات بعسكر أفضى به * موج الفرات كما أتى الأثار حملتك أمواج الفرات ومن رأى * بحراً سواك تقله الأنهار وتقطعت فرقاً ولم يك طودها * إذ ذاك إلا جيشك الجرار وقال بعض من شاهد ذلك: (ج/ص: 13/308) ولما تراءينا الفرات بخيلنا * سكرناه منا بالقنا والصوارم ولجنا فأوقف التيار عن جريانه * إلى حين عدنا بالغنى والغنائم وقال آخر ولا بأس به: الملك الظاهر سلطاننا * نفديه بالأموال والأهل اقتحم الماء ليطفي به * حرارة القلب من المغل وفي يوم الثلاثاء ثالث رجب خلع على جميع الأمراء من حاشيته ومقدمي الحلقة وأرباب الدولة وأعطى كل إنسان ما يليق به من الخيل والذهب والحوايص، وكان مبلغ ما أنفق بذلك نحو ثلاثمائة ألف دينار. وفي شعبان أرسل السلطان إلى منكوتمر هدايا عظيمة وفي يوم الاثنين ثاني عشر شوال استدعى السلطان شيخه الشيخ خضر الكردي إلى بين يديه إلى القلعة وحوقق على أشياء كثيرة، ارتكبها فأمر السلطان عند ذلك باعتقاله وحبسه، ثم أمر باغتياله وكان آخر العهد به. وفي ذي القعدة سلمت الإسماعيلية ما كان بقي بأيديهم من الحصون وهي الكهف والقدموس والمنطقة، وعوضوا عن ذلك بإقطاعات، ولم يبق بالشام شيء لهم من القلاع، واستناب السلطان فيها. وفيها: أمر السلطان بعمارة جسورة في السواحل، وغرم عليها مالاً كثيراً، وحصل للناس بذلك رفق كبير. ابن حمزة بن علي بن هبة الله بن الحوي، التغلبي الدمشقي، كان من أعيان أهل دمشق، ولي نظر الأيتام والحسبة، ثم وكالة بيت المال، وسمع الكثير وخرج له ابن بليان مشيخة قرأها عليه الشيخ شرف الدين الغراري بالجامع، فسمعها جماعة من الأعيان والفضلاء رحمه الله. عبد القاهر بن عبد الغني بن محمد بن أبي القاسم بن محمد بن تيمية الحراني الخطيب بها.(ج/ ص: 13/ 309) وبيته معروف بالعلم والخطابة والرياسة، ودفن بمقبرة الصوفية وقد قارب الستين رحمه الله. وقد سمع الحديث من جده فخر الدين صاحب ديوان (الخطب المشهورة)، توفي بخانقاه القصر ظاهر دمشق. شيخ الملك الظاهر بيبرس، كان حظياً عنده مكرماً لديه، له عنده المكانة الرفيعة، كان السلطان ينزل بنفسه إلى زاويته التي بناها له في الحسينية، في كل أسبوع مرة أو مرتين، وبنى له عندها جامعاً يخطب فيه للجمعة، وكان يعطيه مالاً كثيراً، ويطلق له ما أراد، ووقف على زاويته شيئاً كثيراً جداً، وكان معظماً عند الخاص والعام بسبب حب السلطان وتعظيمه له. وكان يمازحه إذا جلس عنده، وكان فيه خير ودين وصلاح، وقد كاشف السلطان بأشياء كثيرة، وقد دخل مرة كنيسة القمامة بالمقدس فذبح قسيسها بيده، ووهب ما فيها لأصحابه، وكذلك فعل بالكنيسة التي بالإسكندرية وهي من أعظم كنائسهم، نهبها وحولها مسجداً ومدرسة أنفق عليها أموالاً كثيرة من بيت المال، وسماها المدرسة الخضراء، وكذلك فعل بكنيسة اليهود بدمشق، دخلها ونهب ما فيها من الآلات والأمتعة، ومد فيها سماطاً، واتخذها مسجداً مدة ثم سعوا إليه في ردها إليهم وإبقائها عليهم. ثم اتفق في هذه السنة أنه وقعت منه أشياء أنكرت عليه وحوقق عليها عند السلطان الملك الظاهر فظهر له منه ما أوجب سجنه، ثم أمر بإعدامه وهلاكه وكانت وفاته في هذه السنة، ودفن بزاويته سامحه الله. وقد كان السلطان يحبه محبة عظيمة حتى إنه سمى بعض أولاده خضراً موافقة لاسمه، وإليه تنسب القبة التي على الجبل غربي الربوة التي يقال لها قبة الشيخ خضر. العلامة تاج الدين عبد الرحيم بن محمد بن يونس بن محمد بن سعد بن مالك أبو القاسم الموصلي، من بيت الفقه والرياسة والتدريس، ولد سنة ثمان وتسعين وخمسمائة. (ج/ص: 13/310) وسمع واشتغل وحصل وصنف واختصر (الوجيز) من كتابه (التعجيز) واختصر (المحصول) وله طريقة في الخلاف أخذها عن ركن الدين الطاووسي، وكان جده عماد الدين بن يونس شيخ المذهب في وقته كما تقدم. في صفر منها قدم الظاهر إلى دمشق وقد بلغه أن أبغا وصل إلى بغداد فتصيد تلك الناحية، فأرسل إلى العساكر المصرية أن يتأهبوا للحضور، واستعد السلطان لذلك. وفي جمادى الآخرة أحضر ملك الكرج لبين يديه بدمشق، وكان قد جاء متنكراً لزيارة بيت المقدس فظهر عليه فحمل إلى بين يديه فسجنه بالقلعة. وفيها: كمل بناء جامع دير الطين ظاهر القاهرة، وصلى فيه الجمعة. وفيها: سار السلطان إلى القاهرة فدخلها في سابع رجب. وفي أواخر رمضان دخل الملك السعيد ابن الظاهر إلى دمشق في طائفة من الجيش، فأقام بها شهراً ثم عاد. وفي يوم عيد الفطر ختن السلطان ولده خضراً الذي سماه باسم شيخه، وختن معه جماعة من أولاد الأمراء، وكان وقتاً هائلاً. وفيها: فوض ملك التتار إلى علاء الدين صاحب الديوان ببغداد النظر في تستر وأعمالها، فسار إليها ليتصفح أحوالها فوجد بها شاباً من أولاد التجار يقال له (لي)قد قرأ القرآن وشيئاً من الفقه و(الإشارات)لابن سينا، ونظر في النجوم. ثم ادعى أنه عيسى ابن مريم، وصدقه على ذلك جماعة من جهلة تلك الناحية، وقد أسقط لهم من الفرائض صلاة العصر وعشاء الآخرة، فاستحضره وسأله عن ذلك فرآه ذكياً، إنما يفعل ذلك عن قصد، فأمر به فقتل بين يديه جزاه الله خيراً، وأمر العوام فنهبوا أمتعته وأمتعة العوام ممن كان اتبعه. أسعد بن غالب المظفري ابن الوزير مؤيد الدين أسعد بن حمزة بن أسعد بن علي بن محمد التميمي ابن القلانسي. (ج/ص: 13/311) جاوز التسعين وكان رئيساً كبيراً واسع النعمة، لا يغفل أن يباشر شيئاً من الوظائف وقد ألزموه بعد ابن سويد بمباشرة مصالح السلطان فباشرها بلا جامكية، وكانت وفاته ببستانه، ودفن بسفح قاسيون يوم الثلاثاء ثالث عشر المحرم. والد الصدر عز الدين حمزة رئيس البلدين دمشق والقاهرة، وحدهم مؤيد الدين أسعد بن حمزة الكبير كان وزيراً للملك الأفضل علي بن الناصر فاتح القدس، كان رئيساً فاضلاً، له كتاب (الوصية في الأخلاق المرضية) وغير ذلك، وكانت له يد جيدة في النظم، فمن ذلك قوله: يا رب جد لي إذا ما ضمني جدثي * برحمة منك تنجيني من النار أحسن جواري إذا أمسيت جارك في * لحدي فإنك قد أوصيت بالجار وأما والد حمزة بن أسعد بن علي بن محمد التميمي فهو العميد، وكان يكتب جيداً وصنف تاريخاً فيما بعد سنة أربعين وأربعمائة إلى سنة وفاته في خمس وخمسمائة. المستعربي أتابك الديار المصرية، كان أولاً مملوكاً لابن يمن، ثم صار مملوكاً للصالح أيوب فأمره، ثم عظم شأنه في دولة المظفر وصار أتابك العساكر، فلما قتل امتدت أطماع الأمراء إلى المملكة فبايع أقطاي الملك الظاهر فتبعه الجيش على ذلك، وكان الظاهر يعرفها له ولا ينساها، ثم قبل وفاته بقليل انهضم عند الظاهر، ومات في هذه السنة بالقاهرة. ابن علي بن إبراهيم بن عساكر بن الحسين المقدسي، له زاوية بنابلس، وله أشعار رائقة، وكلام قوي في علم التصوف، وقد طول اليونيني ترجمته وأورد من أشعاره شيئاً كثيراً. أبو الفتح عمر بن بندار بن عمر بن علي التفليسي الشافعي. (ج/ص: 13/312) ولد بتفليس سنة إحدى وستمائة، وكان فاضلاً أصولياً مناظراً، ولي نيابة الحكم مدة ثم استقل بالقضاء في دولة هلاوون - هولاكو - وكان عفيفاً نزهاً لم يرد منصباً ولا تدريساً مع كثرة عياله وقلة ماله، ولما انقضت أيامهم تغضب عليه بعض الناس ثم ألزم بالمسير إلى القاهرة، فأقام بها يفيد الناس إلى أن توفي في ربيع الأول من هذه السنة، ودفن بالقرافة الصغرى. التنوخي، وتنوخ من قضاعة، كان صدراً كبيراً، وكتب الإنشاء للناصر داود بن المعظم، وتولى نظر المارستان النوري وغيره، وكان مشكور السيرة، وقد أثنى عليه غير واحد، وقد جاوز الثمانين، ومن شعره قوله: خاب رجاء امرئ له أمل * بغير رب السماء قد وصله أيبتغي غيره أخو ثقة * وهو ببطن الأحشاء قد كفله وله أيضا: خرس اللسان وكل عن * أوصافكم ماذا يقول وأنتم ما أنتم الأمر أعظم من مقالة قائل * قد تاه عقل أن يعبر عنكم العجز والتقصير وصفي دائماً * والبر والإحسان يعرف منكم الشيخ جمال الدين محمد بن عبد الله بن مالك أبو عبد الله الطائي الجياني النحوي، صاحب التصانيف المشهورة المفيدة، منها (الكافية الشافية) وشرحها، و(التسهيل) وشرحه، و(الألفية) التي شرحها ولده بدر الدين شرحاً مفيداً. ولد بجيان سنة ستمائة وأقام بحلب مدة، ثم بدمشق. وكان كثير الاجتماع بابن خلكان وأثنى عليه غير واحد، وروى عنه القاضي بدر الدين بن جماعة، وأجاز لشيخنا علم الدين البرزالي. (ج/ص: 13/313) توفي ابن مالك بدمشق ليلة الأربعاء ثاني عشر رمضان، ودفن برتبة القاضي عز الدين بن الصائغ بقاسيون. محمد بن عبد الله الطوسي، كان يقال له المولى نصير الدين، ويقال الخواجا نصير الدين، اشتغل في شبيبته وحصل علم الأوائل جيداً، وصنف في ذلك في علم الكلام، وشرح (الإشارات) لابن سينا، و وزر لأصحاب قلاع الألموت من الإسماعيلية، ثم وزر لهولاكو، وكان معه في واقعة بغداد، ومن الناس من يزعم أنه أشار على هولاكو خان بقتل الخليفة فالله أعلم، وعندي أن هذا لا يصدر من عاقل ولا فاضل. وقد ذكره بعض البغاددة فأثنى عليه، وقال: كان عاقلاً فاضلاً كريم الأخلاق ودفن في مشهد موسى بن جعفر في سرداب كان قد أعد للخليفة الناصر لدين الله، وهو الذي كان قد بنى الرصد بمراغة، ورتب فيه الحكماء من الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء والمحدثين والأطباء وغيرهم من أنواع الفضلاء. وبنى له فيه قبة عظيمة، وجعل فيه كتباً كثيرة جداً، توفي في بغداد في ثاني عشر ذي الحجة من هذه السنة، وله خمس وسبعون سنة، وله شعر جيد قوي وأصل اشتغاله على المعين سالم بن بدار بن علي المصري المعتزلي المتشيع، فنزع فيه عروق كثيرة منه، حتى أفسد اعتقاده. الشيخ سالم البرقي صاحب الرباط بالقرافة الصغرى، كان صالحاً متعبداً يقصد للزيارة والتبرك بدعائه، وله اليوم أصحاب معروفون على طريقه. فيها اطلع السلطان على ثلاثة عشر أميراً منهم قجقار الحموي. (ج/ص: 13/314) وقد كانوا كاتبوا التتر يدعونهم إلى بلاد المسلمين، وأنهم معهم على السلطان، فأخذوا فأقروا بذلك، وجاءت كتبهم مع البريدية وكان آخر العهد بهم. وفيها: أقبل السلطان بالعساكر فدخل بلاد سيس يوم الاثنين الحادي والعشرين من رمضان، فقتلوا خلقاً لا يعلمهم إلا الله وغنموا شيئاً كثيراً من الأبقار والأغنام والأثقال والدواب والأنعام، فبيع ذلك بأرخص ثمن، ثم عاد فدخل دمشق مؤيداً منصوراً في شهر ذي الحجة فأقام بها حتى دخلت السنة. وفيها: ثار على أهل الموصل رمل حتى عم الأفق وخرجوا من دورهم يبتهلون إلى الله حتى كشف ذلك عنهم، والله تعالى أعلم. قاضي القضاة شمس الدين أبو محمد عبد الله بن الشيخ شرف الدين محمد بن عطاء بن حسن بن عطاء بن جبير بن جابر بن وهيب الأذرعي الحنفي، ولد سنة خمس وتسعين وخمسمائة، سمع الحديث وتفقه على مذهب أبي حنيفة. وناب في الحكم عن الشافعي مدة، ثم استقل بقضاء الحنفية أول ما ولى القضاة من المذاهب الأربعة، ولما وقعت الحوطة على أملاك الناس أراد السلطان منه أن يحكم بها بمقتضى مذهبه، فغضب من ذلك فقال: هذه أملاك بيد أصحابها، وما يحل لمسلم أن يتعرض لها ثم نهض من المجلس فذهب. فغضب السلطان من ذلك غضباً شديداً، ثم سكن غضبه فكان يثني عليه بعد ذلك ويمدحه، ويقول: لا تثبتوا كتباً إلا عنه. كان ابن عطاء من العلماء الأخيار كثير التواضع قليل الرغبة في الدنيا، روى عنه ابن جماعة وأجاز للبرزالي. توفي يوم الجمعة تاسع جمادى الأولى، ودفن بالقرب من المعظمية بسفح قاسيون رحمه الله تعالى. ابرنس طرابلس الفرنجي، كان جده نائباً لبنت صيحل الذي تملك طرابلس من ابن عمار في حدود الخمسمائة، وكانت يتيمة تسكن بعض جزائر البحر، فتغلب هذا على البلد لبعدها عنه.(ج/ص: 13/ 315) ثم استقل بها ولده ثم حفيده هذا، وكان شكلاً مليحاً. قال قطب الدين اليونيني: رأيته في بعلبك في سنة ثمان وخمسين وستمائة حين جاء مسلماً على كتبغانوين، ورام أن يطلب منه بعلبك، فشق ذلك على المسلمين. ولما توفي دفن في كنيسة طرابلس، ولما فتحها المسلمون في سنة ثمان وثمانين وستمائة نبش الناس قبره وأخرجوه منه وألقوا عظامه على المزابل للكلاب. لما كان يوم الخميس ثامن جمادى الأولى نزل التتار على البيرة في ثلاثين ألف مقاتل، خمسة عشر ألفاً من المغول، وخمسة عشر ألفاً من الروم، والمقدم على الجميع البرواناه بأمر أبغا ملك التتار ومعهم جيش الموصل وجيش ماردين والأكراد، ونصبوا عليها ثلاثة وعشرين منجنيقاً. فخرج أهل البيرة في الليل فكبسوا عسكر التتار وأحرقوا المنجنيقات ونهبوا شيئاً كثيراً، ورجعوا إلى بيوتهم سالمين، فأقام عليها الجيش مدة إلى تاسع عشر الشهر المذكور، ثم رجعوا عنها بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً. ولما بلغ السلطان نزول التتار على البيرة أنفق في الجيش ستمائة ألف دينار، ثم ركب سريعاً وفي صحبته ولده السعيد، فلما كان في أثناء الطريق بلغه رحيل التتار عنها فعاد إلى دمشق، ثم ركب في رجب إلى القاهرة فدخلها في ثامن عشر فوجد بها خمسة وعشرين رسولاً من جهة ملوك الأرض ينتظرونه فتلقوه وحدثوه وقبلوا الأرض بين يديه ودخل القلعة في أبهة عظيمة. ولما عاد البرواناه إلى بلاد الروم حلف الأمراء الكبار منهم شرف الدين مسعود وضياء الدين محمود ابنا الخطيري، وأمين الدين ميكائيل، وحسام الدين ميجار، وولده بهاء الدين، على أن يكونوا من جهة السلطان الملك الظاهر وينابذوا أبغا، فحلفوا له على ذلك. وكتب إلى الظاهر بذلك، وأن يرسل إليه جيشاً ويحمل له ما كان يحمله إلى التتار، ويكون غياث الدين كنجري على ما هو عليه، يجلس على تخت مملكة الروم. وفي هذه السنة استسقى أهل بغداد ثلاثة أيام فلم يسقوا. وفيها: في رمضان منها وجد رجل وامرأة في نهار رمضان على فاحشة الزنا، فأمر علاء الدين صاحب الديوان برجمهما فرجما، ولم يرجم ببغداد قبلهما قط أحد منذ بنيت. وهذا غريب جداً. وفيها: استسقى أهل دمشق أيضاً مرتين. في أواخر رجب وأوائل شعبان - وكان ذلك في آخر كانون الثاني - فلم يسقوا أيضاً. وفيها: أرسل السلطان جيشاً إلى دنقلة فكسر جيش السودان وقتلوا منهم خلقاً وأسروا شيئاً كثيراً من السودان بحيث بيع الرقيق الرأس منها بثلاثة دراهم، ورهب ملكهم داوداه إلى صاحب النوبة فأرسله إلى الملك الظاهر محتاطاً عليه، وقرر الملك الظاهر على أهل دنقلة جزية تحمل إليه في كل سنة. (ج/ص: 13/316) كل ذلك كان في شعبان من هذه السنة. وفيها: عُقِدَ عَقْد الملك السعيد بن الظاهر على بنت الأمير سيف الدين قلاوون الألفي في الإيوان بحضرة السلطان والدولة على صداق خمسة آلاف دينار، تعجل منها ألفا دينار وكان الذي كتبه وقرأه محيي الدين بن عبد الظاهر، فأعطي مائة دينار، وخلع عليه. ثم ركب السلطان مسرعاً فوصل إلى حصن الكرك فجمع القيمرية الذين به فإذا هم ستمائة نفر، فأمر بشنقهم فشفع فيهم عنده فأطلقهم وأجلاهم منه إلى مصر، كان قد بلغه عنهم انهم يريدون قتل من فيه ويقيموا ملكاً عليهم، وسلم الحصن إلى الطواشي شمس الدين رضوان السهيلي، ثم عاد في بقية الشهر إلى دمشق فدخلها يوم الجمعة ثامن عشر الشهر. وفيها: كانت زلزلة بأخلاط واتصلت ببلاد بكر. الأديب تاج الدين أبو الثناء محمود بن عابد بن الحسين بن محمد بن علي التميمي الصرخدي الحنفي، كان مشهوراً بالفقه والأدب، والعفة والصلاح، ونزاهة النفس ومكارم الأخلاق. ولد سنة ثمان وسبعين وخمسمائة وسمع الحديث وروى، ودفن بمقابر الصوفية في ربيع الآخر منها، وله ست وتسعون سنة رحمه الله. ابن عبد القادر بن عبد الله بن خليل بن مقلد الأنصاري الدمشقي، المعروف بابن الصائغ، كان مدرساً بالعذراوية وشاهداً بالخزانة بالقلعة يعرف الحساب جيداً، وله سماع ورواية، ودفن بقاسيون. (ج/ص: 13/317) تاج الدين بن المحتسب المعروف بابن الساعي البغدادي، ولد سنة ثلاث وتسعين وسمع الحديث واعتنى بالتاريخ، وجمع وصنف، ولم يكن بالحافظ ولا الضابط المتقن. وقد أوصى إليه ابن النجار حين توفي، وله تاريخ كبير عندي أكثره، ومصنفات أخر مفيدة، وآخر ما صنف كتاب في الزهاد، كتب في حاشيته زكي الدين عبد الله بن حبيب الكاتب: ما زال تاج الدين طول المدى * من عمره يعتق في السير في طلب العلم وتدوينه * وفعله نفع بلا ضير علا علي بتصانيفه * وهذه خاتمة الخير في ثالث عشر المحرم منها دخل السلطان إلى دمشق وسبق العساكر إلى بلاد حلب، فلما توافت إليه أرسل بين يديه الأمير بدر الدين الأتابكي بألف فارس إلى البلستين. فصادف بها جماعة من عسكر الروم فركبوا إليه وحملوا إليه الإقامات، وطلب جماعة منهم أن يدخلوا بلاد الإسلام فأذن لهم، فدخل طائفة منهم بيجار وابن الخطير، فرسم لهم أن يدخلوا القاهرة فتلقاهم الملك السعيد، ثم عاد السلطان من حلب إلى القاهرة فدخلها في ثاني عشر ربيع الآخر. وفي خامس جمادى الأولى عمل السلطان عرس ولده الملك السعيد على بنت قلاوون، واحتفل السلطان به احتفالاً عظيماً، وركب الجيش في الميدان خمسة أيام يلعبون ويتطاردون، ويحمل بعضهم على بعض، ثم خلع على الأمراء وأرباب المناصب. وكان مبلغ ما خلع ألف وثلاثمائة خلعة بمصر، وجاءت مراسيمه إلى الشام بالخلع على أهلها، ومد السلطان سماطاً عظيماً حضره الخاص والعام، والشارد والوارد، وحبس فيه رسل التتار ورسل الفرنج وعليهم كلهم الخلع الهائلة، وكان وقتاً مشهوداً، وحمل صاحب حماه هدايا عظيمة وركب إلى مصر للتهنئة. وفي حادي عشر شوال طيف بالمحمل وبكسوة الكعبة المشرفة بالقاهرة، وكان يوماً مشهوداً. وقعة البلستين وفتح قيسارية ركب السلطان من مصر في العساكر فدخل دمشق في سابع عشر شوال. (ج/ص: 13/318) فأقام بها ثلاثة أيام، ثم سار حتى دخل حلب في مستهل ذي القعدة، فأقام بها يوماً ورسم لنائب حلب أن يقيم بعسكر حلب على الفرات لحفظ المنائر وسار السلطان فقطع الدربند في نصف يوم، ووقع سنقر الأشقر في أثناء الطريق بثلاثة آلاف من المغول فهزمهم يوم الخميس تاسع ذي القعدة وصعد العسكر على الجبال فأشرفوا على وطأة البلستين فرأوا التتار قد رتبوا عسكرهم وكانوا أحد عشر ألف مقاتل. وعزلوا عنهم عسكر الروم خوفاً من مخامرتهم، فلما ترآى الجمعان حملت ميسرة التتار فصدمت سناجق السلطان، ودخلت طائفة منهم بينهم فشقوها، وساقت إلى الميمنة، فلما رأى السلطان ذلك أردف المسلمين بنفسه ومن معه. ثم لاحت منه التفاتة فرأي الميسرة قد كادت أن تتحطم فأمر جماعة من الأمراء بأردافها، ثم حمل العسكر جميعه حملة واحدة على التتار فترجلوا إلى الأرض عن آخرهم، وقاتلوا المسلمين قتالاً شديداً، وصبر المسلمون صبراً عظيماً. فأنزل الله نصره على المسلمين، فأحاطت بالتتار العساكر من كل جانب، وقتلوا منهم خلقاً كثيراً، وقتل من المسلمين أيضاً جماعة، وكان في جملة من قتل من سادات المسلمين الأمير الكبير ضياء الدين ابن الخطير، وسيف الدين قيماز، وسيف الدين بنجو الجاشنكير، وعز الدين أيبك الثقفي، وأسر جماعة من أمراء المغول، ومن أمراء الروم، وهرب البرواناه فنجا بنفسه. ودخل قيسارية في بكرة الأحد ثاني عشرة ذي القعدة، وأعلم أمراء الروم ملكهم بكسرة التتار على البلستين، وأشار عليهم بالهزيمة فانهزموا منها وأخلوها، فدخلها الملك الظاهر وصلى بها الجمعة سابع ذي القعدة، وخطب له بها، ثم كر راجعاً مؤيداً منصوراً. وسارت البشائر إلى البلدان ففرح المؤمنون يومئذ بنصر الله. ولما بلغ خبر هذه الوقعة أبغا جاء حتى وقف بنفسه وجيشه، وشاهد مكان المعركة ومن فيها من قتلى المغول، فغاظه ذلك وأعظمه وحنق على البرواناه إذ لم يعلمه بجلية الحال، وكان يظن أمر الملك الظاهر دون هذا كله، واشتد غضبه على أهل قيسارية وأهل تلك الناحية، فقتل منهم قريباً من مائتي ألف، وقيل قتل منهم خمسمائة ألف من قيسارية وأرزن الروم، وكان في جملة من قتل القاضي جلال الدين حبيب، فإنا لله وإنا إليه راجعون. (ج/ص: 13/319) ودفن بالقرب من الشيخ أرسلان. قال الشيخ علم الدين وكان يذكر أن مولده كان سنة أربع وستين وخمسمائة. شيخ الخدم بالحرم الشريف كان ديناً عاقلاً عدلاً صادق اللهجة، مات في عشر السبعين رحمه الله. أحمد بن محمد بن عبد الله بن أبي بكر الموصلي، ثم الدمشقي الصوفي، سمع الكثير وكتب الكتب الكبار بخط رفيع جيد واضح، جاوز السبعين ودفن بباب الفراديس. محمد بن يوسف بن مسعود بن بركة بن سالم بن عبد الله الشيباني التلعفري، صاحب ديوان الشعر، جاوز الثمانين، مات بحماة، وكان الشعراء مقرين له معترفين بفضله وتقدمه في هذا الفن. ومن شعره قوله: لساني طري منك يا غاية المنى * ومن ولهي أني خطيب وشاعر فهذا لمعنى حسن وجهك ناظم * وهذا لدمعي في تجنيك ناشر علي بن محمود بن علي بن عاصم الشهرزوري الدمشقي، مدرس القيمرية بشرط واقفها له ولذريته من بعده التدريس من تأهل منهم، فدرس بها إلى أن توفي في هذه السنة، ودرس بعده ولده صلاح الدين. (ج/ص: 13/320) ثم ابن ابنه بعد ابن جماعة، وطالت مدة حفيده. وقد ولى شمس الدين على نيابة ابن خلكان في الولاية الأولى، وكان فقيهاً جيداً نقالاً للمذهب، رحمه الله. وقد سافر مع ابن العديم لبغداد فسمع بها ودفن بمقابر الصوفية بالقرب من ابن الصلاح. أبو إسحاق إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن سنجر الكناني الحموي له معرفة بالفقه والحديث، ولد سنة ست وتسعين بحماة، وتوفي بالقدس الشريف ودفن بماملا وسمع من الفخر ابن عساكر، وروى عنه ولده قاضي القضاة بدر الدين ابن جماعة. كانت له عبادة وزهادة وأعمال صالحة، وكان الناس يترددون إلى زيارته بمنين، وكان يتكلم بكلام كثير لا يفهمه أحد من الحاضرين بألفاظ غريبة، وحكى عنه الشيخ تاج الدين أنه سمعه يقول: ما تقرب أحد إلى الله بمثل الذل له والتضرع إليه، وسمعه يقول الموله منفي من طريق الله يعتقد أنه واصل ولو علم أنه منفي رجع عما هو فيه، لأن طريق القوم من أهل السلوك لا يثبت عليها إلا ذوو العقول الثابتة. وكان يقول: السماع وظيفة أهل البطالة. قال الشيخ تاج الدين: وكان الشيخ جندل من أهل الطريق وعلماء التحقيق. قال: وأخبرني في سنة إحدى وستين وستمائة أنه قد بلغ من العمر خمساً وتسعين سنة. قلت على هذا فيكون قد جاوز المائة، لأنه توفي في رمضان من هذه السنة، ودفن في زاويته المشهورة بقرية منين، وتردد الناس لقبره يصلون عليه من دمشق وأعمالها أياماً كثيرة رحمه الله. الحافظ بدر الدين أبو عبد الله بن الفويرة السلمي الحنفي، اشتغل على الصدر سليمان وابن عطاء وفي النحو على ابن مالك، وحصل وبرع ونظم ونثر، ودرس في الشبلية والقصاعين. وطلب لنيابة القضاء فامتنع، وكتب الكتاب المنسوبة. رآه بعض أصحابه في المنام بعد وفاته فقال: ما فعل الله بك؟ فأنشأ يقول: ما كان لي من شافع عنده * غير اعتقادي أنه واحد وكانت وفاته في جمادى الآخرة ودفن بظاهر دمشق رحمه الله. (ج/ص: 13/321) شمس الدين أبو عبد الله الحراني الحنبلي تلميذ الشيخ مجد الدين ابن تيمية، وهو أول من حكم بالديار المصرية من الحنابلة نيابة عن القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز، ثم ولى شمس الدين ابن الشيخ العماد القضاء مستقلاً فاستناب به، ثم ترك ذلك ورجع إلى الشام يشتغل ويفتى إلى أن توفي وقد نيف على الستين رحمه الله. فيها كانت وفاة الملك الظاهر ركن الدين بيبرس، صاحب البلاد المصرية والشامية والحلبية وغير ذلك، وأقام ولده ناصر الدين أبا المعالي محمد بركه خان الملقب السعيد من بعده، ووفاة الشيخ محيي الدين النووي إمام الشافعية فيها في اليوم السابع من المحرم منها. ودخل السلطان الملك الظاهر من بلاد الروم وقد كسر التتار على البلستين، ورجع مؤيداً منصوراً فدخل دمشق وكان يوم دخوله يوماً مشهوداً، فنزل بالقصر الأبلق الذي بناه غربي دمشق بين الميدانين الأخضرين. وتواترت الأخبار إليه بأن أبغا جاء إلى المعركة ونظر إليها وتأسف على من قتل من المغول وأمر بقتل البرواناه وذكروا أنه قد عزم على قصد الشام، فأمر السلطان بجمع الأمراء وضرب مشورة فاتفق مع الأمراء على ملاقاته حيث كان من البقاع، وتقدم بضرب الدهليز على القصر، ثم جاء الخبر بأن أبغا قد رجع إلى بلاده فأمر برد الدهليز وأقام بالقصر الأبلق يجتمع عنده الأعيان والأمراء والدولة في أسر حال، وأنعم بال. وأما أبغا فإنه أمر بقتل البرواناه - وكان نائبه على بلاد الروم - وكان اسمه معين الدين سليمان ابن علي بن محمد بن حسن، وإنما قتله لأنه اتهمه بممالأته للملك الظاهر، وزعم أنه هو الذي حسن له دخول بلاد الروم، وكان البرواناه شجاعاً حازماً كريماً جواداً، وله ميل إلى الملك الظاهر، وكان قد جاوز الخمسين لما قتل. ثم لما كان يوم السبت خامس عشر المحرم توفي الملك القاهر بهاء الدين عبد الملك بن السلطان المعظم عيسى بن العادل أبي بكر بن أيوب، عن أربع وستين سنة، وكان رجلاً جيداً سليم الصدر كريم الأخلاق، لين الكلمة كثير التواضع، يعاني ملابس العرب ومراكبهم، وكان معظماً في الدولة شجاعاً مقداماً. (ج/ص: 13/322) وقد روى عن ابن الليثي وأجاز للبرزالي. قال البرزالي ويقال إنه سم، وذكر غيره أن السلطان الملك الظاهر سمه في كأس خمر ناوله إياه فشربه وقام السلطان إلى المرتفق ثم عاد وأخذ الساقي الكأس من يد القاهر فملأه وناوله السلطان الظاهر والساقي لا يشعر بشيء مما جرى. وأنسى الله السلطان ذلك الكأس، أو ظن أنه غيره لأمر يريده الله ويقضيه، وكان قد بقي في الكأس بقية كثيرة من ذلك السم، فشرب الظاهر ما في الكأس ولم يشعر حتى شربه فاشتكى بطنه من ساعته، ووجد الوهج والحر والكرب الشديد من فوره. وأما القاهر فإنه حمل إلى منزله وهو مغلوب فمات من ليلته، وتمرض الظاهر من ذلك أياماً حتى كانت وفاته يوم الخميس بعد الظهر في السابع والعشرين من المحرم بالقصر الأبلق، وكان ذلك يوماً عظيماً على الأمراء. وحضر نائب السلطنة عز الدين أيدمر وكبار الأمراء والدولة، فصلوا عليه سراً وجعلوه في تابوت ورفعوه إلى القلعة من السور وجعلوه في بيت من بيوت البحرية إلى أن نقل إلى تربته التي بناها ولده له بعد موته، وهي دار العقيقي تجاه العادلية الكبيرة، ليلة الجمعة خامس رجب من هذه السنة. وكتم موته فلم يعلم جمهور الناس به حتى إذا كان العشر الأخير من ربيع الأول، وجاءت البيعة لولده السعيد من مصر فحزن الناس عليه حزناً شديداً، وترحموا عليه ترحماً كثيراً، وجددت البيعة أيضاً بدمشق وجاء تقليد النيابة بالشام مجدداً إلى عز الدين أيدمر نائبها. وقد كان الملك الظاهر شهماً شجاعاً عالي الهمة بعيد الغور مقداماً جسوراً معتنياً بأمر السلطنة، يشفق على الإسلام، متحلياً بالملك، له قصد صالح في نصرة الإسلام وأهله، وإقامة شعار الملك واستمرت أيامه من يوم الأحد سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وخمسين إلى هذا الحين. ففتح في هذه المدة فتوحات كثيرة قيسارية، وأرسون ويافا، والشقيف، وإنطاكية، وبعراس، وطبرية، والقصير، وحصن الأكراد، وحصن عكار، والغرين، وصافينا وغير ذلك من الحصون المنيعة التي كانت بأيدي الفرنج. ولم يدع مع الإسماعيلية شيئاً من الحصون، وناصف الفرنج على المرقب، وبانياس وبلاد انطرسوس، وسائر ما بقي بأيديهم من البلاد والحصون، وولى في نصيبه مما ناصفهم عليه النواب والعمال وفتح قيسارية من بلاد الروم. (ج/ص: 13/323) وأوقع بالروم والمغول على البلستين بأساً لم يسمع بمثله من دهور متطاولة، واستعاد من صاحب سيس بلاداً كثيرة، وجاس خلال ديارهم وحصونهم، واسترد من أيدي المتغلبين من المسلمين بعلبك، وبصرى، وصرخد، وحمص، وعجلون، والصلت، وتدمر، والرحبة، وتل باشر وغيرها، والكرك، والشوبك، وفتح بلاد النوبة بكمالها من بلاد السودان. وانتزع بلاداً من التتار كثيرة، منها شيرزور، والبيرة، واتسعت مملكته من الفرات إلى أقصى بلاد النوبة، وعمر شيئاً كثيراً من الحصون والمعاقل والجسور على الأنهار الكبار، وبنى دار الذهب بقلعة الجبل، وبنى قبة على اثني عشر عموداً ملونة مذهبة. وصور فيها صور خاصكيته وأشكالهم، وحفر أنهاراً كثيرة وخلجانات ببلاد مصر، منها نهر السرداس، وبنى جوامع كثيرة ومساجد عديدة، وجدد بناء مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين احترق، ووضع الدرابزينات حول الحجرة الشريفة، وعمل فيه منبراً وسقفه بالذهب. وجدد المارستان بالمدينة، وجدد قبر الخليل عليه السلام، وزاد في زاويته وما يصرف إلى المقيمين، وبنى على المكان المنسوب إلى قبر موسى عليه السلام قبة قبلي أريحا، وجدد بالقدس أشياء حسنة من ذلك قبة السلسلة، ورمم سقف الصخرة وغيرها. وبنى بالقدس خاناً هائلاً بماملاّ، ونقل إليه باب قصر الخلفاء الفاطميين من مصر، وعمل فيه طاحوناً وفرنا وبستانا، وجعل للواردين إليه أشياء تصرف إليهم في نفقة وإصلاح أمتعتهم رحمه الله. وبنى على قبر أبي عبيدة بالقرب من عمتنا مشهداً، ووقف عليه أشياء للواردين إليه، وعمر جسر دامية، وجدد قبر جعفر الطيار بناحية الكرك، ووقف على الزائرين له شيئاً كثيراً، وجدد قلعة صفت وجامعها، وجدد جامع الرملة وغيرها في كثير من البلاد التي كانت الفرنج قد أخذتها وخربت جوامعها ومساجدها. وبنى بحلب داراً هائلة، وبدمشق القصر الأبلق والمدرسة الظاهرية وغيرها، وضرب الدراهم والدنانير الجيدة الخالصة على النصح والمعاملة الجيدة الجارية بين الناس، فرحمه الله. وله من الأثار الحسنة والأماكن ما لم يبن في زمن الخلفاء وملوك بني أيوب، مع اشتغاله في الجهاد في سبيل الله واستخدم من الجيوش شيئاً كثيراً، ورد إليه نحواً من ثلاثة آلاف من المغول فأقطعهم وأمَّر كثيراً منهم، وكان مقتصداً في ملبسه ومطعمه وكذلك جيشه، وهو الذي أنشأ الدولة العباسية بعد دثورها، وبقي الناس بلا خليفة نحواً من ثلاث سنين، وهو الذي أقام من كل مذهب قاضياً مستقلاً قاضي قضاة. وكان رحمه الله متيقظاً شهماً شجاعاً لا يفتر عن الأعداء ليلاً ولا نهاراً، بل هو مناجز لأعداء الإسلام وأهله، ولم شعثه واجتماع شمله. وبالجملة أقامه الله في هذا الوقت المتأخر عوناً ونصراً للإسلام وأهله، وشجاً في حلوق المارقين من الفرنج والتتار، والمشركين. وأبطل الخمور ونفى الفساق من البلاد، وكان لا يرى شيئاً من الفساد والمفاسد إلا سعى في إزالته بجهده وطاقته. وقد ذكرنا في سيرته ما أرشد إلى حسن طويته وسريرته، وقد جمع له كاتبه ابن عبد الظاهر سيرة مطولة، وكذلك ابن شداد أيضاً.(ج/ص: 13/ 324) وقد ترك من الأولاد عشرة: ثلاثة ذكور وسبعة إناث ومات وعمره ما بين الخمسين إلى الستين، وله أوقاف وصلات وصدقات، تقبل الله منه الحسنات، وتجاوز له عن السيئات والله سبحانه أعلم. وقام في الملك بعده ولده السعيد بمبايعة أبيه له في حال حياته، وكان عمر السعيد يومئذ دون العشرين سنة، وهو من أحسن الأشكال وأتم الرجال، وفي صفر وصلت الهدايا من الفنس مع رسله إلى الديار المصرية فوجدوا السلطان قد مات. وقد أقيم الملك السعيد ولده مكانه والدولة لم تتغير، والمعرفة بعده ما تنكرت، ولكن البلاد قد فقدت أسدها بل أسدها وأشدها، بل الذي بلغ أشدها، وإذا انفتحت ثغرة من سور الإسلام سدها، وكلما انحلت عقدة من عرى العزائم شدها، وكلما رامت فرقة مارقة من طوائف الطغام أن تلج إلى حومة الإسلام صدها وردها، فسامحه الله، وبل بالرحمة ثراه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه. وكانت العساكر الشامية قد سارت إلى الديار المصرية ومعهم محفة يظهرون أن السلطان بها مريض، حتى وصلوا إلى القاهرة فجددوا البيعة للسعيد بعدما أظهروا موت الملك السديد الذي هو إن شاء الله شهيد. وفي يوم الجمعة السابع والعشرين من صفر خطب في جميع الجوامع بالديار المصرية للملك السعيد، وصلى على والده الملك الظاهر واستهلت عيناه بالدموع. وفي منتصف ربيع الأول ركب الملك السعيد بالعصائب على عادته وبين يديه الجيش بكماله المصري والشامي، حتى وصل إلى الجبل الأحمر وفرح الناس به فرحاً شديداً، وعمره يومئذ تسع عشرة سنة، وعليه أبهة الملك ورياسة السلطنة. وفي يوم الاثنين رابع جمادى الأولى فتحت مدرسة الأمير شمس الدين آقسنقر الفارقاني بالقاهرة، بحارة الوزيرية على مذهب أبي حنيفة، وعمل فيها مشيخة حديث وقارئ. وبعده بيوم عُقِدَ عَقْد ابن الخليفة المستمسك بالله ابن الحاكم بأمر الله على ابنة الخليفة المستنصر ابن الظاهر، وحضر والده والسلطان ووجوه الناس. وفي يوم السبت تاسع جمادى الأولى شرع في بناء الدار التي تعرف بدار العقيقي، تجاه العادلية، لتجعل مدرسة وتربة للملك الظاهر، ولم تكن قبل ذلك إلا دارا للعقيقي، وهي المجاورة لحمام العقيقي، وأسس أساس التربة في خامس جمادى الآخرة وأسست المدرسة أيضاً. وفي رمضان طلعت سحابة عظيمة بمدينة صفت لمع منها برق شديد، وسطع منها لسان نار، وسمع منها صوت شديد هائل، ووقع منها على منارة صفت صاعقة شقتها من أعلاها إلى أسفلها شقاً يدخل الكف فيه. (ج/ص: 13/325) البرواناه في العشر الأول من المحرم. والملك الظاهر في العشر الأخير منه، وقد تقدم شيء من ترجمتهما. الخزندار نائب الديار المصرية للملك الظاهر، كان جواداً ممدحاً له إلمام ومعرفة بأيام الناس، والتواريخ، وقد وقف درساً بالجامع الأزهر على الشافعية، ويقال إنه سم فمات فلما مات انتقض بعده حبل الملك السعيد، واضطربت أموره. محمد بن الشيخ العماد أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور المقدسي، أول من ولي قضاء قضاة الحنابلة بالديار المصرية، سمع الحديث خصوصاً علي ابن طبرزد وغيره، ورحل إلى بغداد واشتغل بالفقه، وتفنن في علوم كثيرة، وولي مشيخة سعيد السعداء، وكان شيخاً مهيباً حسن الشيبة كثير التواضع والبر والصدقة. وقد اشترط في قبول الولاية أن لا يكون له عليها جامكية ليقوم في الناس بالحق في حكمه، وقد عزله الظاهر عن القضاء سنة سبعين واعتقله بسبب الودائع التي كانت عنده، ثم أطلقه بعد سنتين فلزم منزله واستقر بتدريس الصالحية إلى أن توفي في أواخر المحرم، ودفن عند عم الحافظ عبد الغني بسفح جبل المقطم، وقد أجاز للبرزالي. قال الحافظ البرزالي: وفي يوم السبت ثاني عشر ربيع الأول ورد الخبر بموت ستة أمراء من الديار المصرية: سنقر البغدادي، وبسطا البلدي التتري، وبدر الدين الوزيري، وسنقر الرومي، وآق سنقر الفارقاني رحمهم الله. خضر بن أبي بكر بن موسى الكردي النهرواني العدوي ويقال إن أصله من قرية المحمدية من جزيرة ابن عمر، كان ينسب إليه أحوال ومكاشفات، ولكنه لما خالط الناس افتتن ببعض بنات الأمراء. وكان يقول عن الملك الظاهر وهو أمير إنه سيلي الملك، فلهذا كان الملك الظاهر يعتقده ويبالغ في إكرامه بعد أن ولي المملكة، ويعظمه تعظيماً زائداً، وينزل عنده إلى زاويته في الأسبوع مرة أو مرتين، ويستصحبه معه في كثير من أسفاره. (ج/ص: 13/326) ويلزمه ويحترمه ويستشيره فيشير عليه برأيه ومكاشفات صحيحة مطابقة، إما رحمانية أو شيطانية، أوحال أو سعادة، لكنه افتتن لما خالط الناس ببعض بنات الأمراء، وكن لا يحتجبن منه، فوقع في الفتنة. وهذا في الغالب واقع في مخالطة الناس فلا يسلم المخالط لهم من الفتنة، ولا سيما مخالطة النساء مع ترك الأصحاب، فلا يسلم العبد ألبتة منهن. فلما وقع ما وقع فيه حوقق عند السلطان وتيسرى وقلاوون والفارس إقطاي الأتابك، فاعترف، فهمّ بقتله فقال له: إنما بيني وبينك أيام قلائل، فأمر بسجنه فسجن سنين عديدة من سنة إحدى وسبعين إلى سنة ست وسبعين. وقد هدم بالقدس كنيسة وذبح قسيسها وعملها زاوية وقد قدمنا ترجمته قبل ذلك فيما تقدم، ثم لم يزل مسجوناً حتى مات في يوم الخميس سادس المحرم من هذه السنة، فأخرج من القلعة وسلم إلى قرابته فدفن في تربة أنشأها في زاويته. مات وهو في عشر الستين، وقد كان يكاشف السلطان في أشياء، وإليه تنسب قبة الشيخ خضر التي على الجبل غربي الربوة، وله زاوية بالقدس الشريف. يحيى بن شرف بن حسن بن حسين بن جمعة بن حزام الحازمي العالم، محيي الدين أبو زكريا النووي ثم الدمشقي الشافعي العلامة شيخ المذهب، وكبير الفقهاء في زمانه، ولد بنوى سنة إحدى وثلاثين وستمائة، ونوى قرية من قرى حوران. وقد قدم دمشق سنة تسع وأربعين، وقد حفظ القرآن فشرع في قراءة التنبيه، فيقال إنه قرأه في أربعة أشهر ونصف، وقرأ ربع العبادات من المذهب في بقية السنة، ثم لزم المشايخ تصحيحاً وشرحاً، فكان يقرأ في كل يوم اثنا عشر درساً على المشايخ، ثم اعتنى بالتصنيف فجمع شيئاً كثيراً، منها ما أكمله ومنها ما لم يكمله، فمما كمل (شرح مسلم)، و(الروضة)، و(المنهاج)، و (الرياض)، و(الأذكار)، و(التبيان)، و(تحرير التنبيه وتصحيحه)، و(تهذيب الأسماء واللغات)، و(طبقات الفقهاء) وغير ذلك. ومما لم يتممه ولو كمل لم يكن له نظير في بابه: (شرح المهذب) الذي سماه المجموع، وصل فيه إلى كتاب الربا، فأبدع فيه وأجاد وأفاد، وأحسن الانتقاد، وحرر الفقه فيه في المذهب وغيره، وحرر الحديث على ما ينبغي، والغريب واللغة وأشياء مهمة لا توجد إلا فيه، وقد جعله نخبة على ما عن له ولا أعرف في كتب الفقه أحسن منه، على أنه محتاج إلى أشياء كثيرة تزاد فيه وتضاف إليه. وقد كان من الزهادة والعبادة والورع والتحري والانجماح عن الناس على جانب كبير، لا يقدر عليه أحد من الفقهاء غيره، وكان يصوم الدهر ولا يجمع بين إدامين، وكان غالب قوته مما يحمله إليه أبوه من نوى، وقد باشر تدريس الاقبالية نيابة عن ابن خلكان، وكذلك ناب في الفلكية والركنية، وولي مشيخة دار الحديث الأشرفية. وكان لا يضيع شيئاً من أوقاته، وحج في مدة إقامته بدمشق، وكان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر للملوك وغيرهم. (ج/ص: 13/327) توفي في ليلة أربع وعشرين من رجب من هذه السنة بنوى، ودفن هناك رحمه الله وعفا عنا وعنه. نجم الدين الواعظ بجامع دمشق أيام السبوت في الأشهر الثلاثة، وكان شيخ الخانقاه المجاهدية وبها توفي في هذه السنة، كان فاضلاً بارعاً، وكان جده يكتب الإنشاء للخليفة الناصر، وأصلهم من بوشنج. ومن شعر نجم الدين هذا قوله: إذا زار بالجثمان غيري فإنني * أزور مع الساعات ربعك بالقلب وما كل ناء عن ديار نازح * ولا كل دان في الحقيقة ذو قرب كان أولها يوم الأربعاء وكان الخليفة الحاكم بأمر الله العباسي، وسلطان البلاد شاماً ومصراً وحلباً الملك السعيد. وفي أوائل المحرم اشتهر بدمشق ولاية ابن خلكان قضاء دمشق عوداً على بدء في أواخر ذي الحجة، بعد عزل سبع سنين، فامتنع القاضي عز الدين بن الصائغ من الحكم في سادس المحرم وخرج الناس لتلقي ابن خلكان، فمنهم من وصل إلى الرملة وكان دخوله في يوم الخميس الثالث والعشرين من المحرم، فخرج نائب السلطنة عز الدين أيدمر بجميع الأمراء والمواكب لتلقيه، وفرح الناس بذلك، مدحه الشعراء، وأنشد الفقيه شمس الدين محمد بن جعفر: لما تولى قضاء الشام حاكمه * قاضي القضاة أبو العباس ذو الكرم من بعد سبع شداد قال خادمه * ذا العام في يغاث الناس بالنعم وقال سعد الله بن مروان الفارقي: أذقت الشام سبع سنين جدباً * غداة هجرته هجراً جميلا فلما زرت من أرض مصر * مددت عليه من كفيك نيلا وقال آخر: رأيت أهل الشام طراً * ما فيهم قط غير راض نالهم الخير بعد شرٍ * فالوقت بسط بلا انقباض وعوضوا فرحة بحزن * قد أنصف الدهر في التقاضي (ج/ص: 13/328) وسرهم بعد طول غم * بدور قاضي وعزل قاضي وكلهم شاكر وشاكٍ * بحال مستقبل وماض قال اليونيني: وفي يوم الأربعاء ثالث عشر صفر ذكر الدرس بالظاهرية وحضر نائب السلطنة أيدمر الظاهري وكان درساً حافلاً حضره القضاة، وكان مدرس الشافعية الشيخ رشيد الدين محمود بن الفارقي، ومدرس الحنفية الشيخ صدر الدين سليمان الحنفي، ولم يكن بناء المدرسة كمل. وفي جمادى الأولى باشر قضاء الحنفية صدر الدين سليمان المذكور عوضاً عن مجد الدين بن العديم، بحكم وفاته. ثم توفي صدر الدين سليمان المذكور في رمضان وتولى بعده القضاء حسام الدين أبو الفضائل الحسن بن أنوشروان الرازي الحنفي، الذي كان قاضياً بملطية قبل ذلك. وفي العشر الأول من ذي القعدة فتحت المدرسة النجيبية وحضر تدريسها ابن خلكان بنفسه، ثم نزل عنها لولده كمال الدين موسى، وفتحت الخانقاه النجيبية، وقد كانتا وأوقافهما تحت الحيطة إلى الآن. وفي يوم الثلاثاء خامس ذي الحجة دخل السلطان السعيد إلى دمشق وقد زينت له وعملت له قباب ظاهرة وخرج أهل البلد لتلقيه وفرحوا به فرحاً عظيماً لمحبتهم والده، وصلى عيد النحر بالميدان، وعمل العيد بالقلعة المنصورة، واستوزر بدمشق الصاحب فتح الدين عبد الله بن القيسراني، وبالديار المصرية بعد موت بهاء الدين بن الحنا الصاحب برهان الدين بن الحضر بن الحسن السنجاري. وفي العشر الأخير من ذي الحجة جهز السلطان العساكر إلى بلاد سيس صحبة الأمير سيف الدين قلاوون الصالحي، وأقام السلطان بدمشق في طائفة يسيرة من الأمراء والخاصكية والخواص، وجعل يكثر التردد إلى الزنبقية. وفي يوم الثلاثاء السادس والعشرين من ذي الحجة جلس السلطان بدار العدل داخل باب النصر، وأسقط ما كان حدده والده على بساتين أهل دمشق، فتضاعفت له منهم الأدعية وأحبوه لذلك حباً شديداً، فإنه كان قد أجحف بكثير من أصحاب الأملاك، وود كثير منهم لو تخلص من ملكه جملة سبب ما عليه. (ج/ص: 13/329) وفيها: طلب من أهل دمشق خمسين ألف دينار ضربت أجرة على أملاكهم مدة شهرين، وجبيت منهم على القهر والعسف. أبو سعيد الصالحي، أعتقه الملك نجم الدين أيوب الكامل، وجعله من أكابر الأمراء، وولاه أستاذ داريته، وكان يثق إليه ويعتمد عليه، وكان مولده في سنة تسع أو عشر وستمائة، وولاه الملك الظاهر أيضاً أستاذ داريته. ثم استنابه بالشام تسع سنين، فاتخذ فيها المدرسة النجيبية ووقف عليها أوقافاً دارّة واسعة، لكن لم يقرر للمستحقين قدراً يناسب ما وقفه عليهم. ثم عزله السلطان واستدعاه لمصر فأقام بها مدة بطالاً. ثم مرض بالفالج أربع سنين، وقد عاده في بعضها الملك الظاهر ولم يزل به حتى كانت وفاته ليلة الجمعة خامس شهر ربيع الآخر بالقاهرة بداره بدرب الملوخية، ودفن يوم الجمعة قبل الصلاة بتربته التي أنشأها بالقرافة الصغرى، وقد كان بنى لنفسه تربة بالنجيبية، وفتح لها شباكين إلى الطريق، فلم يقدر دفنه بها. وكان كثير الصدقة محباً للعلماء محسناً إليهم، حسن الاعتقاد. شافعي المذهب، متغالياً في السنة ومحبة الصحابة وبغض الروافض، ومن جملة أوقافه الحسان البستان والأراضي التي أوقفها على الجسورة التي قبلي جامع كريم الدين اليوم، وعلى ذلك أوقاف كثيرة، وجعل النظر في أوقافه لابن خلكان. الأمير الكبير علاء الدين الشهابي، واقف الخانقاه الشهابية، داخل باب الفرج. كان من كبار الأمراء بدمشق، وقد ولاه الظاهر بحلب مدة، وكان من خيار الأمراء وشجعانهم، وله حسن ظن بالفقراء والإحسان إليهم، ودفن بتربة الشيخ عمار الرومي بسفح قاسيون، في خامس عشر ربيع الأول، وهو في عشر الخمسين، وخانقاه داخل باب الفرج، وكان لها شباك إلى الطريق. والشهابي نسبة إلى الطواشي شهاب الدين رشيد الكبير الصالحي. ابن وهيب أبو الربيع الحنفي شيخ الحنفية في زمانه، وعالمهم شرقاً وغرباً، أقام بدمشق مدة يفتي ويدرس، ثم انتقل إلى الديار المصرية يدرس بالصالحية، ثم عاد إلى دمشق فدرس بالظاهرية. وولي القضاء بعد مجد الدين بن العديم ثلاثة أشهر، ثم كانت وفاته ليلة الجمعة سادس شعبان، ودفن في الغد بعد الصلاة بداره بسفح قاسيون، وله ثلاث وثمانون سنة، ومن لطيف شعره في مملوك تزوج جارية للملك المعظم: (ج/ص: 13/330) يا صاحبي قفا لي وانظرا عجباً * أتى به الدهر فينا من عجائبه البدر أصبح فوق الشمس منزلةً * وما العلو عليها من مراتبه أضحى يماثلها حسناً وشاركها * كفواً وسار إليها في مواكبه فأشكل الفرق لولا وشى نمنمةٍ * بصدغه واخضرارٍ فوق شاربه الإربلي الشافعي، كان أديباً فاضلاً شاعراً، له قدرة في تصنيف روبيت، وقد أقام بالقاهرة حتى توفي في جمادى الأولى من هذه السنة، وقد اجتمع مرة بالملك الصالح أيوب، فجعل يتكلم في علم النجوم فأنشده على البديهة هذين البيتين: دع النجوم لطرقي يعيش بها * وبالعزيمة فانهض أيها الملك إن النبي وأصحاب النبي نهوا * عن النجوم وقد أبصرت ما ملكوا وكتب إلى صاحب له اسمه شمس الدين يستزيره بعد رمد أصابه فبرأ منه: يقول لي الكحال عينك قد هدت * فلا تشغلن قلباً وطب بها نفسا ولي مدة يا شمس لم أركم بها * وآية برءِ العين أن تبصر الشمسا ابن محمد بن الحسن بن عبد الله بن الحسن بن عفان جمال الدين بن الشيخ نجم الدين البادرائي البغدادي ثم الدمشقي، درس بمدرسة أبيه من بعده حتى حين وفاته يوم الأربعاء سادس رجب، ودفن بسفح قاسيون، وكان رئيساً حسن الأخلاق جاوز خمسين سنة. عمر بن أحمد بن العديم، الحلبي، ثم الدمشقي الحنفي، ولي قضاء الحنفية بعد ابن عطاء بدمشق، وكان رئيساً ابن رئيس، له إحسان وكرم أخلاق، وقد ولي الخطابة بجامع القاهرة الكبير، وهو أول حنفي وليه، توفي بجوسقه بدمشق في ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن بالتربة التي أنشأها عند زاوية الحريري على الشرف القبلي غربي الزيتون. علي بن محمد بن سليم بن عبد الله الصاحب بهاء الدين أبو الحسن بن الحنا الوزير المصري، وزير الملك الظاهر وولده السعيد إلى أن توفي في سلخ ذي القعدة، وهو جد جد. (ج/ص: 13/331) وكان ذا رأي وعزم وتدبير ذا تمكن في الدولة الظاهرية، لا تمضي الأمور إلا عن رأيه وأمره، وله مكارم على الأمراء وغيرهم، وقد امتدحه الشعراء، وكان ابنه تاج الدين وزير الصحبة، وقد صودر في الدولة السعيدية. محمد بن أحمد بن عمر بن أحمد بن أبي شاكر مجد الدين أبو عبد الله الإربلي الحنفي المعروف بابن الظهير، ولد بإربل سنة ثنتين وستمائة، ثم أقام بدمشق ودرس بالقايمازية وأقام بها حتى توفي بها ليلة الجمعة ثاني عشر ربيع الآخر، ودفن بمقابر الصوفية، وكان بارعاً في النحو واللغة. وكانت له يد طولى في النظم وله ديوان مشهور، وشعر رائق، فمن شعره قوله: كل حي إلى الممات مآبه * ومدى عمره سريع ذهابه يخرب الدار وهي دار بقاء * ثم يبني ما عما قريب خرابه عجباً وهو في التراب غريق * كيف يلهيه طيبه وعلابة؟ كل يوم يزيد نقصاً وإن عمـ * ـر حلت أوصاله أوصابه والورى في مراحل الدهر ركب * دائم السير لا يرجى إيابه فتزود إن التقى خير زاد * ونصيب اللبيب منه لبابة وأخو العقل من يقضي بصدق * شيبته في صلاحه وشبابه وأخو الجهل يستلذ هوى النفـ * س فيغدو شهداً لديه مصابة وهي طويلة جداً قريبة من مائة وخمسين بيتاً، وقد أورد الشيخ قطب الدين شيئاً كثيراً من شعره الحسن الفائق الرائق. محمد بن سوار بن إسرائيل بن الخضر بن إسرائيل بن الحسن بن علي بن محمد بن الحسين نجم الدين أبو المعالي الشيباني الدمشقي، ولد في يوم الاثنين ثاني عشر ربيع الأول سنة ثلاث وستمائة، وصحب الشيخ علي بن أبي الحسن بن منصور اليسري الحريري، في سنة ثمان عشرة. وكان قد لبس الخرقة قبله من الشيخ شهاب الدين السهروردي، وزعم أنه أجلسه في ثلاث خلوات، وكان ابن إسرائيل يزعم أن أهله قدموا الشام مع خالد بن الوليد فاستوطنوا دمشق، وكان أديباً فاضلاً في صناعة الشعر، بارعاً في النظم، ولكن في كلامه ونظمه ما يشير به إلى نوع الحلول والاتحاد على طريقة ابن عربي وابن الفارض وشيخه الحريري والله أعلم بحاله وحقيقة أمره. (ج/ص: 13/332) توفي بدمشق ليلة الأحد الرابع عشر من ربيع الآخر هذه السنة، عن أربع وسبعين سنة، ودفن بتربة الشيخ رسلان معه داخل القبة، وكان الشيخ رسلان شيخ الشيخ علي المغربل الذي تخرج على يديه الشيخ على الحريري شيخ ابن إسرائيل، فمن شعره قوله: لقد عادني من لا عج الشوق عائد * فهل عهد ذات الخال بالسفح عائد؟ وهل نارها بالأجرع الفرد تعتلي * لمنفردٍ شاب الدجى وهو شاهد؟ نديمي من سعدي أديرا حديثها * فذكرى هواها والمدامة واحد منعمة الأطراف رقت محاسناً * حلى لي في حبها ما أكابد فللبدر ما لاثت عليه خمارها * وللشمس ما جالت عليه القلائد وله: أيها المعتاض بالنوم السهر * ذاهلاً يسبح في بحر الفكر سلم الأمر إلى مالكه * واصطبر فالصبر عقباه الظفر لا تكونن آيساً من فرجٍ * إنما الأيام تأتي بالعبر كدر يحدث في وقت الصفا * وصفي يحدث في وقت الكدر وإذا ما ساء دهر مرةٍ * سر أهليه ومهما ساء سر فارض عن ربك في أقداره * إنما أنت أسير للقدر وله قصيدة في مدح النبي صلى الله عليه وسلم طويلة حسنة سمعها الشيخ كمال الدين ابن الزملكاني وأصحابه علي الشيخ أحمد الأعفف عنه، وأورد له الشيخ قطب الدين اليونيني أشعاراً كثيرة. فمنها قصيدته الدالية المطولة التي أولها: وافى لي من أهواه جهراً لموعدي * وأرغم عذالي عليه وحسدي وزار على شط المزار مطولاً * على مغرمٍ بالوصل لم يتعود فيا حسن ما أهدى لعيني جماله * ويا برد ما أهدى إلى قلبي الصدي ويا صدق أحلامي ببشرى وصاله * ويانيل آمالي ويا نجح مقصدي تجلى وجودي إذ تجلى لباطني * بجدٍ سعيدٍ أو بسعدٍ مجدد لقد حق لي عشق الوجود وأهله * وقد علقت كفاي جمعاً بموجدي ثم تغزل فأطال إلى أن قال: فلما تجلى لي على كل شاهدٍ * وسامرني بالرمز في كل مشهد تجنبت تقييد الجمال ترفعاً * وطالعت أسرار الجمال المبدد وصار سماعي مطلقاً منه بدؤه * وحاشى لمثلي من سماع مقيد ففي كل مشهود لقلبي شاهدٌ * وفي كل مسموع له لحن معبد ثم قال: (ج/ص: 13/333) وصل في مشاهد الجمال أراه بأوصاف الجمال جميعها * بغير اعتقاد للحلو المبعد ففي كل هيفاء المعاطف غادةً * وفي كل مصقول السوالف أغيد وفي كل بدر لاح في ليل شعره * على كل غصنٍ مائس العطف أملد وعنه اعتناقي كل قدٍ مهفهفٍ * ورشفي رضاباً كالرحيق المبرد وفي الدر والياقوت والطيب والحلا * على كل ساجي الطرف لدن المقلد وفي حلل الأثواب راقت لناظري * بزبرجها من مذهبٍ ومورد وفي الراح والريحان والسمع والغنا * وفي سجع ترجيع الحمام المغرد وفي الدوح والأنهار والزهر والندى * وفي كل بستان وقصرٍ مشيد وفي الروضة الفيحاء تحت سمائها * يضاحك نور الشمس نوارها الندى وفي صفو رقراق الغدير إذا حكى * وقد جعدته الريح صفحة مبرد وفي اللهو الأفراح والغفلة التي * تمكن أهل الفرق من كل مقصد وعند انتشار الشرب في كل مجلسٍ * بهيجٍ بأنواع الثمار المنضد وعند اجتماع الناس في كل جمعةٍ * وعيدٍ وإظهار الرياش المجدد وفي لمعان المشرفيات بالوغى * وفي ميل أعطاف القنا المتأود المظاهر العلوية وفي الأعوجيات العتاق إذا انبرت * تسابق وفد الريح في كل مطرد وفي الشمس تحكي وهي في برج نورها * لدى الأفق الشرقي مرآة عسجد وفي البدر بدر الأفق ليلة تمه * جلته سماء مثل صرحٍ ممرد وفي أنجم زانت دجاها كأنها * نثار لآلٍ في بساطٍ زبرجد وفي الغيث روى الأرض بعد همودها * قبال نداء متهم بعد منجد وفي البرق يبدو موهناً في سحابه * كباسم ثغر أو حسام مجرد وفي حسن الخطاب وسرعة الجـ * ـواب وفي الخط الأنيق المجود ثم قال: المظاهر المعنوية وفي رقة الأشعار راقت لسامعٍ * بدائعها من مقصر ومقصد وفي عود عيد الوصل من بعد جفوة * وفي أمن أحشاء الطريد المشرد (ج/ص: 13/334) وفي رحمة المعشوق شكوى محبه * وفي رقة الألفاظ عند التودد وفي أريحيات الكريم إلى الندى * وفي عاطفات العفو من كل سيد وحالة بسط العارفين وأنسهم * وتحريكهم عند السماع المقيد وفي لطف آيات الكتاب التي بها * تنسم روح الوعد بعد التوعد ثم قال: المظاهر الجلالية كذلك أوصاف الجلال مظاهر * أشاهده فيها بغير تردد ففي سطوة القاضي الجليل وسمته * وفي سطوة الملك الشديد الممرد وفي حدة الغضبان حالة طيشه * وفي نخوة القرم المهيب المسود وفي صولة الصهباء جاز مديرها * وفي بؤس أخلاق النديم المعربد وفي الحر والبرد اللذين تقسما الز* مان وفي إيلام كل محسد وفي سر تسليط النفوس بشرها * علي وتحسين التعدي لمعتدي وفي عسر العادات يشعر بالقضا * وتكحيل عين الشمس منه بأثمد وعند اصطدام الخيل في كل موقفٍ * يعثر فيه بالوشيج المنضد وفي شدة الليث الصؤول وبأسه * وشدة عيش بالسقام منكد وفي جفوة المحبوب بعد وصاله * وفي غدره من بعد وعد مؤكد وفي روعة البين المسيء وموقف الـ * ـوداع لحران الجوانح مكمد وفي فرقة الألاَّف بعد اجتماعهم * وفي كل تشتيت وشمل مبدد وفي كل دار أقفرت بعد أنسها * وفي طلل بال ودارس معمد وفي هول أمواج البحار ووحشة الـ * ـقفار وسيل بالمزاييب مزبد وعند قيامي بالفرائض كلها * وحالة تسليم لسر التعبد وعند خشوعي في الصلاة لعزة الـ * ـمناجي وفي الأطراق عند التهجد وحالة إهلال الحجيج بحجهم * وأعمالهم للعيش في كل فدفد وفي عسر تخليص الحلال وفترة الـ * ـملال لقلب الناسك المتعبد المظاهر الكمالية وفي ذكريات العذاب وظلمة الـ *حجاب وقبض الناسك المتزهد ويبدو بأوصاف الكمال فلا أرى * برؤيته شيئاً قبيحاً ولا ردي فكل مسيءٍ لي إليّ كمحسنٍ * وكل مضل لي إليّ كمرشد فلا فرق عندي بين أنسٍ ووحشةٍ * ونورٍ وإظلامٍ ومدنٍ ومبعد (ج/ص: 13/335) وسيان إفطاري وصومي وفترتي * وجهدي ونومي وإدعاء تهجدي أرى تارة في حانة الخمر خالعاً * عذارى وطوراً في حنية مسجد تجلى لسري بالحقيقة مشرب * فوقتي ممزوج بكشفٍ مسرمد تعمرت الأوطان بي وتحققت * مظاهرها عندي بعيني ومشهدي وقلبي على الأشياء أجمع قلب * وشربي مقسوم على كل مورد فهيكل أوثانٍ وديرٍ لراهبٍ * وبيت لنيرانٍ وقبله معبدي ومسرح غرلانٍ وحانة قهوةٍ * وروضة أزهارٍ ومطلع أسعد وأسرار عرفانٍ ومفتاح حكمةٍ * وأنفاس وجدانٍ وفيض تبلد وجيش لضرغامٍ وخدر لكاعب * وظلمة جيرانٍ ونور لمهتدي تقابلت الأضداد عندي جميعها * لمحنة مجهود ومنحة مجتدي وأحكمت تقرير المراتب صورةً * ومعنى ومن عين التفرد موردي فما موطن إلا ولي فيه موقفٌ * على قدم قامت بحق التفرد فلا غرو وإن فت الأنام جميعهم * وقد علقت بحبل من حبال محمد عليه صلاة الله تشفع دائماً * بروح تحيات السلام المردد أبو القاسم الحسين بن العود نجيب الدين الأسدي الحلي، شيخ الشيعة وإمامهم وعالمهم في أنفسهم، كانت له فضيلة ومشاركة في علوم كثيرة، وكان حسن المحاضرة والمعاشرة، لطيف النادرة، وكان كثير التعبد، بالليل وله شعر جيد، ولد سنة إحدى وثمانين وخمسمائة، وتوفي في رمضان من هذه السنة عن ست وتسعين سنة، والله أعلم بأحوال عباده وسرائرهم ونياتهم.
|